أوقاف بني مزاب في البقاع المقدّسة

  • أوقاف بني مزاب في البقاع المقدّسة

من نعم الله الكبرى التي حباها للإباضية المزابيين تلك المنظومة الوقفية التي ورثها المجتمع المزابي الإباضي عن أجيال جاهدت لتوفر له الراحة في مسالكه الدينية والدنيوية، فأصبح المزابي مرتاحا في دار من دياره أين حلّ وارتحل، داخل الوطن وخارجه، لا يخاف مضيعة ولا يشكو شقوة أو تعبا، يؤدي عباداته وشعائره على أكمل وجه وفي سهولة ويسر.

وهناك نصيب كبير من أوقافنا في البقاع المقدسة حيث يقصد المسلمون لأداء خامس أركان الإسلام وإقامة شعائر الله تعالى، ورأينا لزاما أن نُعرٍّف مجتمعنا بهذه النعمة ليستشعروها ويجاهدوا في الحفاظ عليها ماديا ومعنويا، خاصة لما نسمع بأصداء الإعجاب والامتنان من طرف الحجاج الجدد الذين لم يكونوا يتوقعون أن يجدوا في تلك الربوع ما تمتعوا به من راحة نفسية وهم يستفيدون منها مسكنا ومَطْعما وخدمات... فللإباضية في البقاع المقدَّسة أملاك وقفية عدّة، تتمثّل في الآتي:

  1. في مكّة المكرّمة:

وفيها امتلك الإباضية أوّل وقفٍ في الأراضي السعودية، وكان هذا قبل 300 سنة من الآن، في الزّمن الذي كان فيه السَّفر على القوافل، وتتمثّل في محلّ صغير خُصِّصَ لوضع الأمتعة والمؤُونَة، أمّا المبيت فكان خارج المحلٍّ مع غيرهم.

ثم اشتُرِيَ بعد ذلك محلٌّ آخر عن طريق المبادلة في منطقة تُدعى "أَجْيَاد السَّد"، وهي أقرب ما تكون إلى الحرم، ويتكوَّن من حجرتين إحداهما للرجال والأخرى للنِّساء، بالإضافة إلى "صالون" واسع، وتقدَّر المساحة الإجمالية لهذا المحلّ بـ: 250م2 تقريبا.

وفي سنة 1966م انطلق مشروع إعادة الهيكل وتجديده، في زمن كانت فيه أوضاع الدّولة السّعودية تتحسَّن شيئا فشيئا، وقد استمرت الأشغال مدة ثلاث (03) سنوات، أصبح المحلُّ بعدها يتكون من ستة (06) طوابق، يستقِلُّ كلٌّ واحد منها بالمرافق الضَّرُورية؛ من مطبخ ومراحيض و07 حجرات تقريبا، كما يحتوي المبنى من تحتِهِ على خزَّان للمياه، وقد كان يسع وفود الحجّاج المزابيين من قبل حينما كان عدد الحجاج قليلا؛ فيُذكر أنه في سنة 1955م كان مجموع الحجَّاج المياميين لا يتجاوز الخمسين (50) نفرا بين رجال ونساء، وفي سنة 1975م كان العدد يقدر بـ(150) حاجّا على أقصى تقدير، وفي سنة 1975م أُضِيفت للمبنى عدَّة تحسينات، حين استُبدِلت الأدرجُ مِصعداً كهربائياً، وهذا بفضل المحسنين وَجُودِهم.

ونظرا للتزايد المستمر في عدد الحجَّاج من سنة لأخرى، خاصة لما تجاوزت أعدادهم 850 حاجّاً -وهي أقصى ما يمكن أن يستوعبه المحلّ- أصبح المحلٌّ وخزان الماء لا يكفيان في مواسم الحجّ ورمضان، فكثيرا ما يلجأ القائمون على الوقف إلى شراء المياه بالشاحنات مثلا. وهم الآن يطمحون إلى التوسيع وإعادة تعديل البنيان، ولكن الإجراءات الإدارية جعلت الأمور تسيّر بصعوبة ومشقة.

وفي السنوات الأخيرة هيّأ الله القدير أن تُبنى عمارة حكومية ذات (16) طابقا بجوار مبنى الإباضية، فخُصِّصت الطوابق الستّة الأولى لأئمة ومشائخ الحرم، وأتيحت الفرصة لمن يشتري الطوابق الفوقية الأخرى، فاغتنم الإباضية الفرصة واشتروا خلال سنوات عديدة الطوابق الستة (06) طوابق العليا من هذه العمارة، على أمل أن يستكمل عدد آخر من الطوابق، ومن خلال هذه الطوابق فُتِح باب مُشَتَرك بين العمارتين.

ومؤخّراً أصدرت السُّلطات السعودية قرارا يقضي بمنع النَّوم في أَسِرَّة مُركَّبة، فأصبح المبنى يستوعب 170 فردا فقط، وهذا ما تسبَّب في أزمة لدى المسؤولين على هذا الوقف، والذين قاموا بعدّة محاولات لشراء ديار مجاورة، لكن ظروفا مدنيّة وإداريّة حالت دون ذلك، وكحلٍّ مؤقَّتٍ للأزمة قاموا بكراء فنادق مجاورة في الفترة التي تتزامن مع موسم الحج.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا المبنى موجود اليوم داخل نطاق "مشروع توسعة الحرم المكِّي" الذي انطلقت أعماله مؤخَّرا، ومصيره هو مصير آلاف الأوقاف الموجودة بالبقاع المقدّسة، ونظرا لكون وقف الإباضية قديما ولوجود وثائقَ وعقود تُثبِت هُوِيتَه؛ فإن الإباضيَّة سيستفيدون بتعويض بديل عنه، بعكس ما لو لم يمتلكوا عقودا ووثائق فلا حقّ لهم في التّعويض، علما أن هناك سياسة إدارية مشددة هدفها إبعاد الأجانب عن حوزة الحرم خاصة الطّوائف الحسّاسة مع الدولة؛ كالشيعة الإيرانيين.

  1.  في "المدينة المنوَّرة":

كان للإباضية فيها ديار وقف اشتروها خلال فترات زمنية متباعدة، وهي كما يلي:

- الدار الأولى وهي الأَقْدَمُ كانت تتواجد في منطقة قرب المسجد النبوي؛ وبعد التوسيع المتكرِّر لمسجد النبوي أزيل مبنى الوقف وأصبحت أرضه تتوسَّط ساحة (صحن) المدينة المنوّرة التي تمتدّ بعد ذلك المكان بـ200م تقريبا، وهي تعود إلى تاريخ قديم لا تُعَرف تفاصيله.

- أمّا الدار الثانية فكانت قائمة سنة 1984م وكانت آنذاك بعيدة جدّا عن المسجد، يقيم فيها الطلبة المزابيون الذين يدرسون هناك في المدينة ويتكفَّلون بالقيام على خدمات الوقف والمعتمِرِين، وكغيرها من الأوقاف لما انطلق مشروع توسعة الحرم المدني بداية التسعينات أصاب الهدمُ (نِصفَ المبنى)، وبقي النصف الآخر معلّقا لم يُسكَن ولم يُهدَم.

- ثم تأتي الدار الأخيرة التي اشتريت عام 1999م مساحتها 800م2، وتتكوَّن من طابق سُفليِّ وخمسة مستودعات، وسبعة طوابق، يحتوي كلٌّ منها على ثلاثة أجنحة، وفي كل جناح رِواقٌ مع سبع (07) حجرات تقريباً، وهي تستوعب قانونيا حوالي 270 فردا.

- ولكونها ناقصة المرافق والتَّجهيزات -خاصة الوقائية- فقد أغلقتْهَا الحكومة مؤخَّرا لتنطلق فيها أشغال الصِّيانة، وهي حاليا في اللَّمسات الأخيرة من العمل، على أن تفتح أبوابها من جديد إن شاء الله.

  1.  في "جدّة":

كان للمزابيين بها منزل كبير، وعندما تحوَّلت منطقة المبنى إلى مركز تجاري ضخم مكتظٍّ ومشغول بالضوضاء والعمل، قام المسؤولون ببيعها وشراء وقفين؛ إحداهما قرب المطار (تبعُدُ عنه حوالي 5كم)، وهو ساحة واسعة بمساحة 500م²، خُصصت أساسا لاستقبال الحجّاج مباشرة بعد وصولهم من رِحلةِ الطّائرة قصد توفير الرّاحة لهم. أمّا الدار الأخرى فتقع خارج مركز المدينة (أي: خارج منطقة الضّجيج)، ومساحتها 450م².

  1.  في "مِنىً":

هي أرض واسعة مقسّمة إلى (ساحات محوّطة بالجدران)، تملِكُها الحكومة خلال كامل السّنة، ثم تقدّمها لمدة ثلاثة أيام (أيام التّروية) كلّ سنة للوفود القادمين من كل دولة، وخُصٍّصت لإباضية الجزائر ساحةٌ واسعة خاصة بهم. ولكن في بداية الثمانينات أقامت الحكومة حملة تصفية كلِّ الجدران، وحولوا (مِنىً) إلى وادٍ واسع، وأصبحت أيام التروية عبارة عن مخيمات تُنصَب، والناس كلهم فيها سواء.

الوقف المعنوي:

كما نشير إلى أن هناك أوقاف معنوية، تتمثل في رجال وقّفوا "مدة من أوقاتهم وأجسامهم" في سبيل الله تعالى، وهم ينضوون تحت تنظيم: "البعثة الجزائرية للحج، وفد بني مزاب" وهي تقوم بخدمات الحجّاج والقيام بحاجاتهم بداية من حمل الأمتعة بعد نزول الحجاج في المطار، وفترة إقامتهم هناك، إلى يوم مغادرتهم لدار الوقف. ولا يزال هذا النظام سائرا إلى يومنا هذا بفضل الله.

وأهمّ الوظائف المهن التي تنشط هناك: الطبّ – التمريض – صيانة الكهرباء – البناء – النجارة – الطبخ – السياقة ويمثل كلّ وظيفة شخصان أو ثلاثة... ومعهم مجموعة من القدماء العارفين بالأماكن والمقرات والشخصيات والأمور الإدارية... ثم تأتي معهم لجنة الخدمات العامة والتي تتكون من (15) عضوا تقريبا، ومجموع هؤلاء يصل تقريبا إلى (40) متطوٍّعا، تقع على كاهِلِهِم مَهمَّة خِدمة "الحجّاج المزابيين" بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

ملاحظات عامة:

رغم كلِّ هذه الأوقاف والخدمات المسخّرة فإن "القانون السعودي" قد خصّص ثلاث لجان حكومية معنية لشراء الوقف، فلا يقع شراء لوقف أو بيع إلا على أيديهم وبإذنهم، حتى يقع ضبط حركة الأوقاف وتغيراتها. كما يوجب أن يكون لكلّ وقفٍ أجنبي وكيلا من السعودية؛ يتكفل بالشؤون الإدارية للوقف من بناء وتعديل وترميم، ودفع فاتورات المبنى، بل ويمثِّل أصحاب الوقف حتّى في قضايا العدالة، كلّ هذا ليتسنى للدولة التّحكم في حركيّة الأوقاف ويسهِّل عليها مُتابعة الوُجود الأجنبيّ داخل ترابها.

وأخير نذكر القراء أن يستشعروا هذه النعمة ويؤدوا حق شكرها قولا وعملا؛ فكم من ملايير الناس يتمنون أن يكون لهم جزء من هذه النعمة التي خصصها الله لنا دون غيرنا؛ ولم يتهيّأ لهم من الرجال والأجداد من يسدد النظر ويسطر المستقبل بكل إخلاص وجهاد ليدّخروا لأبنائهم وأحفادهم ما يؤطّر لهم مسيرتهم الدينية والاجتماعية والأخلاقية... فنسأل الله أن يجزيَ أحسن الجزاء كلَّ من يسهر على خدمة الأوقاف ويسعى لنفع المسلمين، إنه سميع قريب مجيب.

إعداد الطالب: عدون منير بن موسى - الأولى ثانوي – علوم وتكنولوجيا
من مجلة الأصالة والثقافة - العدد40- السنة الدراسة 2012/2013م

 

لايوجد تعليقات

أضف تعليقا للموضوع : أوقاف بني مزاب في البقاع المقدّسة