التعليم الشرعي أهميته وضرورته الحضارية

  • التعليم الشرعي أهميته وضرورته الحضارية

الحمد لله الذي علم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم، سبحانه الذي أحاط بكل شيء علما، ولا تُحيط الخلائقُ بشيء من علمه إلا بما شاء، وأصلي وأسلم على معلِّمِ البشريةِ سيِّدِ الخلْقِ وحبيبِ الحقِّ محمدِ بنِ عبدِ الله، صلواتُ ربي وسلامُه عليه ما تعاقب الجديدان، أما بعد:

حضرات أعضاء حلقة العزابة ومنظمة إروان الموقرين، حضرات الأساتذة المرابطين في ثغور التربية والتعليم، حضرات المشايخ المتصدين للفتوى الآخذين بيد الناس إلى بر الأمان، أيها الطلبة النجباء العاكفون على الدراسة والبحث في معهد عمي سعيد للدراسات الإسلامية، أيها الطلبة الكبار المنضوون تحت أقسام الدراسة الشرعية بمؤسسة عمي سعيد، ياأولياء الطالبات النجيبات المنتسبات إلى كلية المنار للدراسات الإنسانية بفرع غرداية، أيها الحضور الكريم يا أحباب العلم وأنصار التعلم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعيدكم مبارك سعيد وكل عام وأنتم بخير، أعاده الله علينا باليمن والأمان والسلامة والإسلام.  

يعد التعليم بالنسبة للإنسان ضرورةَ حياة ووجود، وبدونه يفقد أهم خصائصه الإنسانيةِ والحضاريةِ، بل يفقد معنى آدميته، ويكاد يلحق بالكائنات التي لم ترزق نعمةَ العقل والنظر والتفكير والاعتبار.

إن تكريم الله للإنسان واستخلافَه في الأرض، وإرسالَ الرسل إليه وتسخيرَ ما عداه له، وإسباغَ النعم عليه ما ظهر منها وما بطن، كان كلُّ هذا ليكون عبداً لخالقه، لا يعبد سواه ولا يخشى إلا إياه.. حتى تكون عاقبة أمره خيرا في هذه الحياة، ويوم يقوم الناس لرب العالمين.

لذلك كانت مهمة التعليم في حياة الإنسان هي أن تقربه من ربه، وأن تنأى به عن مزالق الإثم والعصيان، ولهذا قرر القرآن الكريم أن الذين يخشون الله حقيقة الخشية هم العلماء، فقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].

هذا وإن الناظر في القرآن الكريم ليجد الاهتمام البالغ بالعلم وأهله، ويكفي لملاحظة ذلك ما يأتي:

. أول آية نزلت من القرآن تحث على العلم والقراءة في قوله تعالى: }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ...عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {[العلق:1-5].

. تمجيد الله لأهل العلم في كثير من الآيات:

  • }  قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ {[الزمر:9].
  • } شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{[آل عمران:18].
  • } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {[المجادلة:11].

أما إذا عرجنا إلى سنة نبيئنا محمد r فنجد العشرات من الأحاديث تنص على ذلك، ومن تلكم الأحاديث:

  • عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله r:)من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع(.
  • عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r )مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ(.
  • عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: )طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ(.

أيها الإخوة المؤمنون: يكاد يجمع التربويون الإسلاميون وغير الإسلاميين أن هناك معضلةً أو مشكلةً في النظرية التربوية المطبقة في العالم الإسلامي، وهي تلك الثنائية التي مزقت التعليم إلى ما يسمى بالتعليم الديني والتعليم المدني، وهذه الثنائية التي انتقلت عدواها إلى كثير من المجالات والمفاهيم، لم يعرفها هذا العالم إلا بعد أن نُكِب بالاحتلال الغربي، وفرض عليه ما فرض من النظم السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية، فبدأت المفاهيم الإسلامية الصحيحة يعتريها الذبول، وتطغى عليها بعض المفاهيم غيرِ الإسلامية، وضاعف من كل ذلك نشأةُ أجيال تلقت ثقافتها وتعليمها عبر النظم والقوانين التي فرضها الاستعمار في بلادنا، ومن ثم علت الأصوات التي تنادي بفصل الدين عن الدولة، بل وتهاجم الدين نفسه أحياناً، كما ظهرت دعاوى العلمانيةِ وغيرِها من الإيديولوجيات التي بلبلت الأفكار وجعلت الأمة في أمرٍ مريجٍ بالنسبة لكثير من القضايا المتعلقة بالدين.

        إن التطوير والتجديد أمر ضروري إسلامياً، فالجمود والركود يناقض سنة الله في كونه، والإسلام دين العقل والتفكير والدعوة، وأخذِ الحكمة دون نظر إلى مصدرها أو قائلها، ومن ثَمَّ يجب علينا دائماً أن نفكّر في كل قضايانا أو مشكلاتنا تفكيرًا عملياً ناضجاً يراعي تطور الحياة وما يفرضه من تغييرٍ وتجديدٍ حتى لا يتخلف الركب، وحتى نظل في المكانة التي بوأنا الله إياها، وهي مكانة الخير والشهادة على غيرنا من الأمم.

        وما دام التطوير ضرورةً، والتعليم يحتل منزلةً خاصةً في مجال بناء الإنسان وإعدادِه الإعدادَ الصالح لينهض برسالته في الحياة، فإن هذا التطوير ينبغي أن يكون له منطلقٌ محددٌ وغايةٌ واضحةٌ حتى يكون تطويرًا فاعلاً ومؤثرًا ومحققاً لما يراد منه.

        وهذا المنطلق هو فلسفة النظرية التربوية الإسلامية والتأكيدُ على أن هذه الفلسفة قوامها توجيه السلوك البشري كله نحو سيادة شرع الله في دنيا الناس، وأن الإنسان في كل تصرفاته محكوم بهذا الشرع حتى يحقق معنى الاستخلاف في الأرض والعبوديةِ الكاملة للذي خلق فسوّىٰ والذي قدّر فهدىٰ.

        قد يقع التغيير في النظرية التربوية في بعض المسائل الإجرائية، أو تعديلٌ وإضافةٌ وحذفٌ في المادة العلمية، ومثل هذا التغيير قد يعد تطويرًا، ولكنَّ الأهم من ذلك أن يكون كل تغيير أو تعديل منبثقاً من فلسفة النظرية ومعيناً على تحقيق رسالتها بصورة أقرب إلى الكمال إن لم تكن كاملةً.

        ولأننا أمة تنهض كل خصائصها على عقيدة الوحدانية، فإن علينا أن نبرز في تطوير سياستنا التربوية خصائص هذه الأمة، وإلا كنا كمن يحرث في البحر، أو ينفق جهده عبثاً، أو يسعى وراء سرابٍ خادعٍ وأملٍ خائبٍ.

        إن كل دول العالم حتى العلمانية منها تحاول أن توجه نظمها التربوية لخدمة الأهداف العليا لها، بل إن من هذه الدول من يجعل الأهداف الدينية هي محور سياستها التربوية كما يحدث الآن من اليهود في فلسطين، ونحن أولى من غيرنا بأن تكون نظمنا التربوية في خدمة عقائدنا الدينية من حيث الأهدافُ الكلية والمثل العليا والغايات التي تتجاوز هذه الحياة الدنيا إلى تلك الحياة الخالدة.

        وإذا كان هناك من يمتعض أو يضيق صدره إذا جاءت إشارةٌ إلى الدين وأن له الكلمةَ الأولى في كل النظم والقوانين، فإن هذا الضيق والامتعاض قد يكون مبعثه الجهلَ بالدين أو الظنَّ بأنه عائق دون التطوير والتقدم، وأن الذين نفضوا أيديهم منه قد سبقونا وغلبونا، وهذا كله باطل من التصور والفهم.. فنحن أمة لا يمكن أن تتقدم وتنهض بغير قيمها الدينية، وما يحدث في العالم الإسلامي كله الآن أوضح برهان على أن البلبلة التي تهيمن على هذا العالم وأفقدته وضوح الرؤية وانتهاج الطريق القويم مردها إلى هذا التمزق الثقافي الذي جعل حياتنا بعضُها يحمل اسم الدين، وبعضها الآخر لا يقيم للدين وزناً ولا يرعى له حكماً.

من منطلق هذه الفلسفة التربوية الإسلامية عكف العلماء الربانيون على اعتبار التعليم الشرعي حقا وواجبا على الجميع دون استثناء: الرجال والنساء، الصغار والكبار، وأن هذا التعليم هو الأكسيجين الذي تتنفسه المجتمعات، وأنه لا استقامة إلا بنشر التعليم.

وإذا استقرأنا تاريخ أهل الحق والاستقامة نجدهم يولون لهذا الموضوع الأهمية القصوى، وأن بقاء أفكارهم كانت بالتعليم وتحمل مشاقه عبر العصور والأجيال، وما جهود الإمام جابر بن زيد والإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة، والإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الفرسطائي رحمهم  الله إلا سلسلة من تلك الجهود التربوية التي تهدف إلى المحافظة على نصاعة الدين وبياضه.

ونكاد نجزم أيها الإخوة أن أي استقرار وتطور في مجتمع ما لا نجده إلا مسبوقا بحركة تربوية ناجحة انتشلت ذلك المجتمع من غياهب الجهل والتخبط ووضعته في بر أمان العلم.

هذا وإن مؤسسة الشيخ عمي سعيد التي يحتفل إطاراتها ومحبوها وأنصارها اليوم في هذا اللقاء بافتتاح الموسم الجديد 2015/2016 لأقسام الشريعة فيها: معهد عمي سعيد للدراسات الإسلامية، كلية المنار للدراسات الإنسانية لمركز غرداية، وأقسام الدراسة الشرعية للكبار كغيرها من المؤسسات التربوية أدركت جسامة الوضع وثقل المسؤولية والأمانة الملقاة على عاتقها، فشمرت عن ساعد الجد ووفرت كل الإمكانيات والوسائل لاستمرار هذا النهج التربوي، وهي قد بدأت - والحمد لله - تقطف ثمار جهودها وترى آثار هذا التوجه الفكري في المجتمع الذي أقبل أفراده على العلم الشرعي، فبدأت تتهاطل طلبات الالتحاق بأقسامها المذكورة ليس من أبناء المنطقة وبناتها فحسب، بل من أناس تفصلنا بينهم المسافات الطوال، كما بدأت تجربتها تستنسخ هنا وهناك، ومناهجها الشرعية تطلب للتدريس من مؤسسات عدة.

بارك الله في جهود مؤسستنا وبارك في جهود القائمين عليها ومحبيها ومناصريها، وفتح الله على طلبتها وطالباتها، وهدانا لتحمل المسؤولية بالجدية اللازمة لنبلغ أمانة الدين كما يريد الله عزوجل، فالحمل ثقيل والدروب وعرة، ولكنَّ الله في العون والتأييد، وهو القائل: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ([العنكبوت:69].

بارك الله لنا في لقائنا هذا وهدانا لما فيه الخير والصلاح، وجعلنا من المخلصين وممن يتحرى الصواب في أعمالهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.         

كلمة باسم المؤسسة في لقاء التغافر والافتتاح الرسمي لفروع قسم التكوين المتخصص بالمؤسسة

دار القرآن الكريم، يوم السبت 12 ذو الحجة 1436هـ/ 26 سبتمبر 2015م

لايوجد تعليقات

أضف تعليقا للموضوع : التعليم الشرعي أهميته وضرورته الحضارية