هل تؤثر الأنترنت على تفكيرنا؟

  • هل تؤثر الأنترنت على تفكيرنا؟

القرن العشرون... قرن انفجار المعلومات والاختراعات، قرن اختصرت فيه المسافات والأوقات، لقد سبق هذا التّطور نموّاً وتطوُّرا في العصور التي سبقت عصرنا هذا، ومن ذلك آلة الطّباعة والآلة الحاسبة، ثم بدأت الأمور تتطوّر شيئا فشيئا، إلى غاية القرن العشرين تمّ بناء اللّبنات الأساسية لأوَّل حاسوب عرفه العالم، وعرف هذا الحاسوب تحوُّلات ومحطَّات عديدة في نشأته إلى أن تطوّر ووصل إلينا على الشّكل الذي بين أيدينا، وربطنا بالعالم بفضل الإنترنت التي أعطتْنَا بدورها (جوجل)، و(ياهو)، (السّكايب) و(الفايسبوك)... فتمكّنّا بواسطة نقرة واحدة على الزّرّ من الاطلاع على العالم، وإيصال المعلومات واستقبالها، والقيام بأبحاث عديدة في ظرف قياسيّ مُذهِل، فبعدما كان البحث في موضوع معيَّن يتطلَّب ساعات وأيّاما من البحث بين أرفُفِ المكتبات، وبين صفحات الكتب والمراجع، أصبح الآن يتمُّ ببساطة شديدة في بضع دقائق وببضعة ضغطات على لوحة المفاتيح، فتبيّن لنا أنّنا داخل عالمٍ يفتح لنا كنوز العالم على طَبَقٍ من ذهب ودون مقابل. فهل كلُّ ما يلمع ذهبٌ؟

 

  • التوجس المستمر من الاختراعات:

منذ تمكّن الإنسان من صنع اختراعات ثورية، كان النّقّاد من الفلاسفة والعلماء يبدون تخوُّفهم وتوجّسهم منها، فبالعودة إلى التّاريخ القديم نجدُ تخوُّفا مستمرّا من قبل الفلاسفة تجاه الاختراعات الحادثة في عصرهم، فلقد اشتكى "سقراط" من تطوّر الكتابة، وخشي أن يعتمد الناس على المواد المكتوبة كبديل عن المعرفة، التي من المفترض أن يحملوها معهم في رؤوسهم، أو كما وصف الأمر فهم: "سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم ويصبحون كثيري النِّسيان"، وبما أنَّهم سيكونون قادرين على استقبال كمّية كبيرة من المعلومات بدون إرشادات صائبةٍ سيظنُّون أنَّهم واسعي الاطلاع، في حين أنّ معظمهم جاهل، وسيكونون محشوِّين بوهم الحكمة بدلاً من: الحكمة الحقيقية".
ومع اختراع العالم "جوتنبرغ" لآلة الطباعة في القرن الخامس عشر(15) الميلادي، بدأت مظاهر أخرى من التخوف، فالعالم الإيطالي "هيرمينيو سكيارفيكيو" عبّر عن قلقه من أنَّ تَوَفُّر الكتب للجميع سيُسبِّب كسلاً ثقافياً، يجعل الناس "أقل ولعاً بالدِّراسة" وسيُضعف من عقولهم، وأبدى آخرون قلقهم من أن توفُّر الكتب الرخيصة المطبوعة سيُقوّض من الدِّين، وسيذلُّ عمل العلماء والكتّاب، واليوم فقط يشهد العالم صِدَاما ونزاعا حول مدى شرعيَّة بعض الابتكارات والاختراعات التي أثبتت خطرها بعد سنوات من اختراعها، فهل تخبِّئ لنا (الإنترنت) مضارّاً ومخاطر لن نشعر بها إلا بعد فوات الأوان...

 

  • هل تشعر بتأثير الإنترنت عليك؟

تحت عنوان "هل يجعلنا جوجل أغبياء؟" (Is Google making us stupid)، يقدِّم لنا الكاتب "نيكولاس كار" مقاله الذي يصِفُ فيه الإنترنت وتأثيره على تفكيره ودماغه، حيث يشعر الكاتب بأن تغييرا يحدُثُ في دماغه مردُّه "الإنترنت"، ويحسّ بأنّه لم يَعُد يفكر بالأسلوب الذي كان يفكّر به في الماضي، ويشعر بهذا التّغيير خصوصاً عند القراءة، إضافة إلى الشُّعور بصعوبة في التَّركيز، وأصبح الكاتب يتنقَّل سريعاً بين المعلومات رغم أنّه كان في السَّابق يتعمّق في القراءة لمدة طويلة.
وإجمالا يقول إنّ عقله الآن يتوقّع الحصول على المعلومة بالطّريقة التّي ينشرها الإنترنت... دفعات سريعة من الجزئيات، ويقول: "لقد كنت قديما مثل الغوّاص في بحر الكلمات... أمّا الآن فأنا أمرّ على السطحيات بسرعة الطائرة النفّاثة".
والكاتب يخبرنا أنّه ليس هو الوحيد الذي يشعر بهذا التّغيير، فكثير من أصدقائه يجدون صعوبة في التّركيز على القراءة، ويرون أنّ طريقة تفكيرهم تتغيّر كلّما زاد استعمالهم للإنترنت.
وأثبتت أبحاث وتجارب أنّ النّاس لا يقرؤون على الإنترنت بصورة عادية، فقد أُجرِيت دراسات منها مشروع بحث (بريطاني)، حيث قام الباحثون بتسجيل حركة زُوَّار موقعَيْن من أكبر مواقع البحث البريطانيّة، فوجدوا أن الغالبيَّة العُظمَى تُبدِي صورة من التصفُّح السريع والخاطف بين الرّوابط والمصادر، ونادراً ما تعود إلى المصدر الأوَّل، وكان الزُّوار يقرؤون صفحة أو صفحتين على الأكثر من كلّ موقع قبل أن يقفزوا للموقع التّالي، ويقوم بعضهم بحفظ المقالات الطّويلة، ولكن لم يوجد ما يُثبِتُ أنَّ أحدهم يعود إليها لاحقا، حتى وصل الباحثون إلى استنتاج يقولون فيه: "إن الزّوار لا يقرؤون على الإنترنت بالطريقة التّقليدية، بل يقومون بقراءة العناوين الرئيسية، مقتطفات من هنا وهناك".
واليوم فإنّ تأثير الإنترنت كذلك لا ينتهي عند شاشة "الكمبيوتر" الصغيرة... فمع تغيُّرِ تصور النّاس لمفهوم الإعلام صار لزاما على وسائل الإعلام التّقليديّة أن تُعدِّل من أساليبها لكي تُوائِمَ مُتطلَّبات المستخدمين الجديدة، فنجد أنّ قنوات التليفزيون صار لها شريط إعلامي متحرِّك وإعلانات سريعة مثل مواقع الإنترنت بالضّبط، وكذلك الجرائد التي أصبحت تقدم المقالات القصيرة، وحتى إن طال المقال لابد له من ملخص سريع، وصارت الصّحف تملأ صفحاتها بقُصَاصَات المعلومات السريعة.

 

  • كيف تغير (الإنترنت) من تركيبة أدمِغَتِنا؟

لا يوجد أيُّ نظام للاتِّصالات لعب نفس الدّور الذي تلعبه الإنترنت في حياتنا الآن، وقليل ممّا كتب عن الإنترنت حتى الآن أخذ في الاعتبار فكرة: "كيف تساهم الإنترنت في برمجة عقولنا؟"، وتبقى أخلاقيات الإنترنت الذهنيّة غامضة بشكل كبير. 
في عصر الصّناعة، ابتكر رجل اسمه "تيلور" نظاما للعمل الدّقيق، ولتحسين الكفاءة يقوم على تقسيم العمل إلى مهامّ صغيرة، وتوزيعه بطريقة معيّنة على العمّال الذين يقومون بالعمل أيضا بطريقة محدَّدة مُسبقا، ورغم أنّ هذا النّظام سَاعَدَ في رفع إنتاجيّة المصانع، إلا أنّه حوّل العمّال إلى آلات تعمل على آلات، وفكرة "تيلور" في عصر الصّناعة تمثل فكرة (جوجل) في عصر المعلومات. 
يقول المدير التّنفيذي لـ(جوجل) "إيريك شميدت": "إنّ (جوجل) شركة قامت على علم القياسات، وأنَّها تجاهد من أجل أن تُمَنْهِج وتؤطّر كلّ شيء، فاعتمادا على آلاف القياسات التي تجرى يوميا، تُعَدِّلُ (جوجل) من الخوارزميات التي تستخدمها للتّحكُّم في كيفية حصول المستخدمين على البيانات، وبالتّالي فإنّ ما فعله "تيلور" في عمل اليد في عصر الصناعة تفعله (جوجل) في عمل العقل في عصر المعلومات".
إنّ الشّركة التي أعلنتْ أنّ هَدَفَهَا هو تنظيم معلومات العالم وجعْلِهَا مُتاحةً ومفيدة لكلِّ البشر، والتي تسعى لتطوير محرّك البحث الكامل الذي يفهم تحديدا ما تعنيه، وبالتالي يُعطِيك بالضّبط ما تريده هذه الشّركة (جوجل) في وجهة نظرها: "المعلومة ما هي إلا سلعة... مصدر نفعٍ يمكن أن يدرس ويحلَّل بكفاءة".
الشابان الموهوبان "سيرجي برين" و"لاري بيج" مؤسِّسا (جوجل) خلال دراستهما للدُّكتوراه في جامعة "ستانفورد"، كانا يعلنان باستمرار عن رغبتهما في تحويل محرِّك البحث الشهير إلى ذكاءٍ اصطناعيٍّ يمكنُهُ الاتصال مباشرة مع عقولنا... ذكيٌّ مثلنا أو حتى أذكى منّا.
في عالم (جوجل)، ذلك العالمَ الذي ندخُلُه حينما نتّصل بـ(الإنترنت)، هناك مساحة ضئيلة من التّأمّل والغموض، فالغموض في ذلك العالم ليس فرصة للتفكّر والتّأمل، وإنّما هو عيب يجب إصلاحُهُ، والعقل البشريّ ليس سوى جهاز حاسوب عَفَا عليه الزمن، ويحتاج لمعالج بيانات أسرع وذاكرة تخزين أكبر.
ففِكرة أنّ عقولنا يجب أن تعمل بسرعة أكبر في معالجة البيانات ليست فقط معتقدا في عالم (الإنترنت)، ولكنّها كذلك راسخة في عالم الأعمال، فكلّما تصفّحنا الإنترنت وكلّما أسرع ضغطُنَا أكثر على الرَّوابط، وشاهدنا صفحات أكثر كانت فرصة (جوجل) وغيرها من الشركات العملاقة أكبر في جمع المعلومات عنّا، وعرض إعلانات وإشهارات أكثر لنا، فمُعظم أصحاب التّجارات عبر الإنترنت لديهم ذاكرة لتخزين فُتَات المعلومات التي نترُكُهَا وراءنا في سعيِنا من رابط لآخر، وكلّما زاد ذلك الفُتات، كان أفضل لهم بالطبع، وبالتالي فآخر شيء يريدونه هو "تشجيع القراءة المتمهِّلة أو المتعمِّقة والتّفكير المركَّز"، إنّما الذي في صالح أرباحهم هو دفعنا نحو مزيد من التّشتّت في إبحارنا على (الإنترنت).

 

  • الخاتمة:

لا أحد منا ينكر فضل (الإنترنت) وما ينبع منها، ولعلّ (جوجل) أو كما يحقّ للبعض منّا أن يدعوه بـ "الشَّيْخ جوجل"، قد قدّم لنا صورة حول مدى أهمّية الإنترنت في توفير البحث بطريقة سَلِسة وملائِمة تُوصِل الجميع إلى المعلومة التي يطلُبُها في ظرف قياسيّ.
ولكن لا يجب أن ندع بريق الإنترنت يصرف أبصارنا عن أخذ الحيطة والحذر، فليس كلُّ ما يلمع ذهبا، ويجب أن لا يُعيقنا الإنترنت من الكِتاب والبحث الدّقيق بين أرفف المكتبات وبين طيَّات وثنايا المراجع الموثوقة والأَمِينَة، فلا زال أمام العالم الكثير ليكتشفه عند سبره أغوار (الإنترنت).
المرجع وصاحبه في سطور: 
الموضوع يعود إلى مقالة بعنوان: "Is google making us stupid?" أو: "هل يجعلنا جوجل أغبياء؟"، والمقالة ليست عن (جوجل) بالتحديد، لكن عن القراءة والبحث باستخدام الحاسوب، وعن طريق شبكة الإنترنت، وكيف تؤثر فينا هذه الشبكة وهل التأثير إيجابي أم سلبي؟ . كاتب المقالة هو "نيكولاس كار"، وهو مؤلّف كتابين حول التقنية، وهما Does IT Matter وThe Big Switch، والكتابان يوجهان نقداً لصناعة الحاسوب، ولدور الحاسوب في إعادة تشكيل المجتمعات والعلاقات بين الناس.

إعداد الطالب: كاره عيسى بن بكير- الثالثة ثانوي علوم تجريبية
من مجلة الأصالة والثقافة - العدد40- السنة الدراسية 2012/2013م

1 تعليقات

  1. عمر حاج سعيد

    موضوع مفيد ومهم، حيث بدون أن أشعر حدث لي مع هذا المقال نفس الشيئ الذي يتحدث عنه المقال، حيث قرأته بصورة سطحية سريعة لآخذ منه الفكرة العامة فقط.

أضف تعليقا للموضوع : هل تؤثر الأنترنت على تفكيرنا؟